في ذكراها الـ64.. 23 يوليو حركة مباركة أم انقلاب عسكري أم ثورة شعبية؟
في ذكراها الـ64.. 23 يوليو حركة مباركة أم انقلاب عسكري أم ثورة شعبية؟

في
الساعات الأولى ليوم ٢٣ يوليو من العام 1952 تحرك الصاغ يوسف صديق إلى مقر
قيادة القوات المسلحة في كوبري القبة، وفقًا للخطة المقررة التي تم
الاتفاق عليها بين "الضباط الأحرار" بقيادة البكباشي جمال عبدالناصر، ولكنه
لم يلتزم بساعة الصفر المحددة، فقد تحرك قبلها بمحض المصادفة، وبذلك أمكنه
إلقاء القبض على معظم قيادات الجيش داخل مقر القيادة، قبل ساعة واحدة من
تحرك هذه القيادات لإلقاء القبض على الضباط الأحرار بعد أن تسربت تفاصيل
تحركهم تلك الليلة .
والباقي كان سهلًا، حصار مقر الإذاعة في شارع الشريفين،
وتقديم البيان رقم واحد لواحد من المذيعين الذين كانوا في السهرة لإلقائه،
وكان ليلتها المذيع الشاب فهمي عمر الذي لم يجد مفرًا من القيام بتلك
المهمة في ظل استيلاء الضباط على مقر الإذاعة، وكان البيان الأول الذي عاد
بعد ذلك البكباشي أنور السادات إلى تسجيله بصوته مخاطبا المصريين بجملته
الشهيرة "بني وطني"، والذي اقتصر على عرض مطالب الجيش التصحيحية، ومواجهة
الفساد الذي أدى إلى الهزيمة في حرب فلسطين ١٩٤٨، والاقتصار على مطالب
تطهير الجيش من الخونة والفاسدين، ولم بتم ذكر أي جملة تتعلق بنصير الملك
ولا الملكية.
كان الملك فاروق الأول، ملك مصر والسودان في الإسكندرية
لتمضية إجازة الصيف، وكذلك معظم وزراء الحكومة التي تم تشكيلها في اليوم
نفسه برئاسة نجيب باشا الهلالي، وتم حصار قصر عابدين في القاهرة فيما كان
الملك في قصر رأس التين في الإسكندرية حيث بدأت المفاوضات معه من خلال رئيس
الوزراء الراحل علي ماهر باشا، والذي طلبت قيادة الثورة بأن يتولى تشكيل
الوزارة فوافق فاروق أملًا في كسب الوقت، وأن تقتصر حركة الجيش على تطهير
صفوفه من الفاسدين والخونة كما جاء في البيان رقم واحد.
واستنجد فاروق بالسفير الأميركي وقتها "كافري" في ظل علاقته
السيئة مع السفارة البريطانية التي أعلنت عدم تدخلها في الأزمة الداخلية،
ولم ينس فاروق إجبار الإنجليز له لتولية مصطفى النحاس الوزارة في ٤ فبراير
١٩٤٢ حين حاصرت قوات الاحتلال البريطانية قصر عابدين، فإما وزارة النحاس أو
الإطاحة بفاروق نفسه، وهذه المرة يتكرر الموقف ولكن من يحاصر عابدين هو
أفراد من الجيش المصري .
ومع ردود الفعل المرحبة بالحركة المباركة كما أطلق عليها في
الساعات والأيام الأولى ارتفع سقف مطالب الضباط الأحرار في ٢٦ يوليه بضرورة
رحيل فاروق من مصر، وتنازله عن العرش لابنه الأمير أحمد فؤاد، الذي ولد
منذ عدة أشهر فقط، ولما لم يجد فاروق أي حماية من السفارة الأمريكية التي
اكتفت ببذل الجهد لتأمين حياته، فيما أعلنت السفارة البريطانية عدم تحريك
قواتها من قناة السويس إلى القاهرة وافق على التنازل عن العرش ومغادرة مصر
في الساعة السادسة يوم ٢٦ يوليو، ووقع وثيقة التنازل بهدوء رافضًا المقاومة
أو الدخول في مواجهة مسلحة مع الجيش، والمثير أن فاروق صعد إلى اليخت
الحرية الذي أبحر به بعد إطلاق المدفعية ٢١ طلقة تحية له، ووصل محمد نجيب
متأخرًا فاستقل لنشًا ولحق بالحرية حيث صعد على متنها لتحية فاروق الذي
غادر إلى منفاه في إيطاليا .
مع مغادرة فاروق وتنازله عن العرش وتكوين مجلس وصاية ظلت مصر
ملكية إلى أن تم إسقاط الملكية في ١٩٥٤، وتولي الضباط الأحرار الحكم بشكل
غير مباشر حيث أسند إلى علي ماهر إدارة البلاد، وسرعان ما تحولت الحركة
المباركة إلى ثورة شعبية بفضل الالتفاف الشعبي حولها، والمثير أن عميد
الأدب العربي طه حسين هو أول من أطلق على الحركة لقب الثورة وكذلك الدكتور
راشد البراوي الذي أصدر كتابه الشهير "حقيقة الانقلاب الأخير في مصر" يفند
فيه رفضه لوصف حركة الجيش بالانقلاب، مؤكدًا أنها ثورة استجابة للمطالب
الشعبية فيما أطلقت عليه أمريكا وبريطانيا لقب الانقلاب العسكري على تلك
الثورة .
وتم الإعلان عن الأهداف الستة الشهيرة للثورة بعد عدة أسابيع
"٣ هدم و ٣ بناء"، الإطاحة بالحكم الفاسد، والقضاء على الاستعمار وأعوانه
من الإقطاعيين، وتطهير الجيش من العناصر الفاسدة، وإقامة جيش وطني، وحياة
ديموقراطية سليمة، وعدالة اجتماعية.
واستقرت الأحوال للضباط الأحرار، وظهر جمال عبدالناصر
باعتباره قائد الحركة الحقيقي وتمت الإطاحة بمحمد نجيب بعد أن تم تنصيبه
أول رئيس للجمهورية ليصعد جمال عبدالناصر إلى المقعد الرئاسي لعدة دورات
حتى رحيله في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ ويخرج في جنازته عدة ملايين في أكبر جنازة
لزعيم على مستوى العالم، وبعد انتصارات كبيرة أهمها إنهاء الحكم الملكي،
وتحقيق الجلاء بعد احتلال بريطاني استمر من ١٨٨٢، وتأميم قناة السويس
والتصدي للعدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي في ١٩٥٦، والمضي في بناء
الجيش المصري والسد العالي، وعشرات المصانع بمساعدة الاتحاد السوفيتي،
والتحول نحو الاشتراكية وبناء قطاع عام ضخم إلى جانب توالي قوانين الإصلاح
الزراعي وإنهاء طبقة الإقطاعيين والرأسماليين، وبناء آلاف المدراس وعشرات
الجامعات والكليات بالمجان لأبناء الشعب، ولكن هزيمة ١٩٦٧ قتلت عبدالناصر
وأصابت قلبه بأزمات لم يتحملها ورحل بعد إعادة بناء الجيش الذي عبر قناة
السويس في ٦ أكتوبر ١٩٧٣ في ظل رئاسة أنور السادات .
وبعد مرور كل تلك السنوات ات على ثورة يوليو، اختفى الخلاف
حول تقييم ما حدث وقتها، فالحركة المباركة التي بدأت بتحرك الجيش سرعان ما
تحولت تدريجيًا إلى أهم ثورة في تاريخ مصر غيرت تاريخها وتوجهاتها، وأنجزت
الكثير على كافة المستويات على الرغم من إخفاقها في بناء الديموقراطية
والحريات العامة ولذلك أيضًا لا يعتبر أمرًا غريبًا أن تنقطع معرفة الأجيال
الشابة بهذه الثورة المجيدة في تاريخ مصر بعد أن تعرضت إلى حرب من الداخل
والخارج، والأخطر تآكل إنجازات هذه الثورة التي حفرت مكانها المجيد في كتاب
تاريخ مصر، حتى لو اقتصر الأمر الآن على بضعة أغاني لعبدالحليم حافظ، وأم
كلثوم عن ثورة ٢٣ يوليو.
ليست هناك تعليقات